السبت، 5 مارس 2011

الثقة confidence

في ظل الإضطرابات السياسية التي تعصف بالعالم العربي الأن فيما يمكن أن يطلق عليه صحوة عامة وشاملة أستنفرت المهمشين والضائعين وأستجابت لأصوات الحكماء والشرفاء والتي ظننا أنها ذهبت سدى حتى جائت ساعة الحساب ووقف أصحاب الحقوق المهدرة في وجه ظالميهم بعسكرهم وجبروتهم ‘ لم تعيدهم المدرعات والدبابات لديارهم فقد أصبح الموت أفضل من الحياة في الذل والعار ، ولم تعدم النظم المتسلطة وسيلة نفسية كانت أو مادية لخنق هذه النفحة الحرة التي سرت في أجساد الشعوب فتارة كانت الضغوط بالعسكر والنار وتارة كانت الضغوط بالترهيب بالفوضى وإنعدام الأمن وعندما لم تفلح تلك الوسائل أصبح التهديد بإنهيار الإقتصاد وفرار رأس المال وشبح الجوع القادم هو أخر المحاولات البائسة للضغط على الشعوب ومحاولة تركيعهم ، ولكن هل كانت هناك ثقة حقيقية تدفع برأس المال لإدارة عجلة إقتصاد سليم في ظل حكومات ديكتاتورية تفتقد لأدنى درجات الشفافية ولا تعترف بسيادة القانون ؟
عندما تدار الدولة بثقافة إحتكار السلطة وإحتكار رأس المال يصبح هناك أزمة ثقة تجتاح الجميع ويحجم الناس عن محاولة ضخ أموالهم في مشاريع صغيرة تنعش السوق وتزيد من فرص العمل فهناك دائما حيتان كبار قادرين على إبتلاع الأسماك الصغيرة التي تحاول السباحة في بحر الأعمال وقد تكون نشأة الشركات المتعددة الجنسيات التي التهمت الأسواق العالمية في السنوات السابقة هي ما خلق الأزمة المالية العالمية ، والتي وجدت مناخ مناسب في ظل حكومات تفشت فيها مظاهر الفساد من رشوة وإلتفاف على القوانين وإنعدام للرقابة والمسائلة ، ولذلك فالمنطق يقول أن إزاحة الفساد هى أولى خطوات بناء إقتصاد قوي جاذب لرأس المال ومن الغريب أن يكون للفسيولوجيا دور في بناء الثقة فقد وجد العلماء أن الشعوب التي تعاني من أزمات مالية وإقتصادية ينخفض لدى أفرادها إفراز هرمون الأوكسيتوسين oxytocin  والذي يعمل أيضا كناقل عصبي وهو عبارة عن بروتين صغير مكون من تسعة أحماض أمينية ثبت علميا قدرته على تقوية أواصر العلاقات الإنسانية ويفرز مع حليب الأم فيقوي العلاقة بين الأم ووليدها كما أنه يسرع من عملية الولادة وهو ما يقوي العلاقة بين الزوجين ويخلق بينهما نوع من الثقة المتبادلة.
ولبيان مدى تأثير هذا الهرمون على العلاقات الإقتصادية قام العلماء بإجراء تجربة عملية وظفوا فيها متطوعين لا يعرفون بعضهم البعض وتم تقسيمهم لمجموعتين (أ ، ب) وتم توزيع عشرة دولارات على كل واحد وطلب من المجموعة "أ" أن ترسل جزء من العشرة دولارات حسب الرغبة لفرد في المجموع "ب" بحسب ما يجود هو به ويتم مضاعفة هذا المبلغ ثلاثة مرات وتضاف هذه الهبة على حساب الشخص الثاني في المجموعة "ب" فإذا تبرع فرد في المجموعة "أ" بخمسة دولارات يحصل الفرد في المجموعة "ب" على (3x5) وتضاف على مكافئته الأساسية "العشرة دولارات" فيكون مجموع ما يحصل عليه 25 دولار .
وفي المرحلة الثانية يسمح للفرد في المجموعة "ب" أن يعيد جزء من المال الذي حصل عليه لفرد في المجموعة "أ" مع التأكيد بأنه غير ملزم بإعادة أي شئ للطرف الأخر وأن المبلغ الذي سيرسله سيصل كما هو دون زيادات ، وبعد أن قام الجميع بخياراتهم تم أخذ عينات من دمائهم لفحص نسبة الأوكسيتوسين oxytocin ومقارنتها بالخيارات التي أتخذها الأفراد محل التجربة . ويعتبر علماء الإقتصاد أن نصف التجربة الأول هو مقياس للثقة بينما النصف الثاني هو مقياس للوفاء . وقد أثبتت التجربة أن المبالغ المالية التي أرسلها الناس تلقوا ردا عليها بنسبة 98% فكلما زادت الثقة زاد الوفاء وكلما أرتفعت نسبة الأموال التي تم تحويلها أرتفعت نسبة هرمون الأوكسيتوسين oxytocin  المفرزة وعمليا فقد بدأت أجسام الفئة "ب" في إفراز الهرمون بعد تلقيهم الأموال من الفئة "أ" مباشرة . وتكمن أهمية هذا الهرمون في الجسم في الفترة الطويلة نسبيا التي يحتاجها البشر في الحضانة والرعاية وحتى ما بعد سن المراهقة فهذا الهرمون يوفر نوع من الترابط القوي بين أفراد الأسرة الواحدة لحماية الأطفال وحتى يستطيعون رعاية أنفسهم والإعتماد على الذات ومواجهة الحياة .
ولحسن الحظ فإن هذا الهرمون يفقد تأثيره أو لا يعطي تأثير كافي في حالة تعاطيه بالوسائل الصناعية أي أنه يجب أن يفرز في علاقة إنسانية طبيعية صادقة وإلا كان يمكن إستخدامه للتأثير في الجماهير أو التلاعب بهم .
ومن العجيب أن تسجيل قياس نسبة ضئيلة من هذا الهرمون تزامنت مع أرتفاع نسبة هرمون الديهيدروتستوستيرون dihydrotestostérone والذي يجعل من الذكور أكثر عدوانية مما يؤكد أن المناخ الذي تقل فيه الثقة أو تنعدم يتسم بالعدوانية وهذا ما كان ملموسا وبقوة في مجتمعاتنا التي فقد فيها الناس الثقة بالنظام وأصبحوا أكثر عدوانية وتشككا في كل ما يحيط بهم ويفسر أيضا كيف أن إسقاطهم لرموز الفساد والتي صنعت حالة إنعدام الثقة من الأساس وثقت العلاقة بينهم وجعلتهم أكثر محبة وترابطا ولغت الفروق الفردية والطبقية والطائفية بينهم .
محاربة الفساد هي أهم وأول خطوة ليس فقط لبناء إقتصاد أكثر قوة ، ولكن لبناء إنسان ومجتمع أكثر ترابطا وأقوى إنتماءً لوطنه.

هناك تعليق واحد:

  1. مقالة جميلة ورائعة ولكن هل سيأتي ذلك اليوم الذي يصبح للثقة دواء يمكن أن يتجرعه الانسان حتى يزيل الثقة بالنفس او يزيدها...

    شكراً لك

    ردحذف