الأربعاء، 23 مارس 2011

أسلحة دمار شامل

ليست نووية ولا كيميائية ولا جرثومية، ولكنها لا تقل عن هذه النوعية من الأسلحة من حيث قوة التدمير بالرغم من أنها ليست أكثر من مجرد هواء يمر من الرئتين على الحنجرة ويخرج من بين الشفاه في صورة حروف وكلمات ، والتي هي معجزة البشر التي لم يتم إكتشاف ماهيتها وتقنية حدوثها بشكل كامل حتى الأن حيث يستطيع طفل في السادسة وببساطة تخزين قرابة 13,000 تعبير مختلف يرتفع هذا المخزون ليتعدي ال 60,000 في سن النضوج، ولكن عندما يستخدم البشر هذه الخاصية الفريدة في صياغة شائعات وفي السعي بالنميمة بين أفراد المجتمع يؤثر ذلك بشكل من الصعب تداركه في حياة بعض الناس فقد يتسبب في تدمير زواجهم أو إقصائهم من أعمالهم أو عدم توليهم مناصب كانوا أهلا لها ، ويعتبر بعض المتخصصين في علم النفس أن النميمة وإطلاق الشائعات هي حاجة نفسية يلجأ إليها الناس لتقوية علاقاتهم فهذا يؤكد وجود نوع من الثقة داخل دائرة الأصدقاء ويبقى دائما واحد خارج هذه الدائرة هو بالطبع الضحية الذي وقع فريسة للمجموعة، وقد يشعرهم ذلك بتميزهم وبأنهم أفضل من الأخرين، وكأن من يطلق الشائعة يقول للأخرين أنظروا لفلان وقد فعل كذا وكذا نحن أفضل ولم نفعل مثل ما فعل.  وتختلف الشائعات باختلاف جنس الأفراد والمرحلة العمرية ونمط الحياة الذي يعيشونه ومستوى ثقافتهم ونوعية إهتماماتهم ، وغالبا ما يقع السياسيين والفنانين ضحية الشائعات فهم مادة متوفرة ومعروفة من نسبة كبيرة من الناس والحديث عنهم لا ينتج عنه مشاكل مباشرة للأشخاص الذين أطلقوا الشائعة.
والشائعات قد تنشأ بشكل عفوي لمجرد التسلية وتقوية العلاقات وتمضية الوقت وقد تنشأ كإجراء إنتقامي من بعض الشخصيات الحاقدة والتي فشلت في مواجهة الأخرين بحقـدها فوجــدت فــي ترويــج الشــائعات الكــاذبة متنفســا ووســيلة للإنتقــام.
عندما تنتشر الإشاعات في نطاق ضيق داخل مجتمع صغير محدود تكون نتائجها المدمرة أيضا محدودة وقاصرة على الفرد أو المجموعة الصغيرة الذين أوقعها حظها العاثر فريسة بين أفواه أفراد من مجتمعهم، ولكن حاليا أصبحت الإشاعات تستخدم بشكل أوسع وتجوب نطاقات من الصعب حصرها وتمس فئات أكبر وساهم في ذلك وسائل الإتصال وشبكات المعلومات التي وصلت لكل بقاع الأرض تقريبا وظهر ما يسمى بالصحافة الصفراء والتي تعتمد على نشر أكبر عدد من الشائعات والبحث في أدق خصوصيات المشاهير والتي تحظي حياتهم الخاصة بإهتمام شريحة كبيرة من المجتمع وبالطبع لم تغفل القوى الدولية التجارية والسياسية أهمية هذا السلاح الذي يمكنه أن يحرك الجماهير فأصبح هناك ما يمكن تسميته بتقنية مدروسة لإطلاق الشائعات تستخدم هذه التقنية أحيانا في الترويج لمنتج ما أو الإساءة لسمعة منتج أخر وتكون على أشدها في أوقات الإنتخابات حيث يتعرض المرشحين المحتملين لأقصى درجات الضغط بترويج الكثير من الأقاويل والشائعات حول إنتماءاتهم وحياتهم الشخصية، منها ما هو صادق ومنها ما هو كاذب ومنها ما يعتمد على حقائق وتم تضخيمها وتشويهها بدرجة تجعل من الصعب تأكيدها أو تكذيبها .
وعندما تسود الإضطرابات والصراعات تكون الشائعات على أشدها ويكون من المستحيل التحقق من كل ما نسمعه فالشائعات التي لاحقت قيام الثورة والرموز التي أحاطت بالثورة من الكثرة بحيث أصابت الجميع بالتشويش والحيرة ولم يعد أحد يستطيع رؤية الحقيقة المجردة في وجود ضباب كثيف من الأكاذيب . لم تتوقف ألة إنتاج الأكاذيب والشائعات لحظة ومنذ قيام الثورة في مصر بداية بأن عناصر الثورة ممولين من الخارج وينفذون أجندات بزعم من كانوا في السلطة وتارة يجعلون هذا الخارج أمريكا وإسرائيل وتارة أخرى يكون هذا الخارج هو حماس وحزب الله، أو تلخيص الثورة في وجوه محددة بالرغم من شعبيتها وإنتشارها في ربوع مصر ثم التركيز على تشويه هذه الوجوه كما فعلوا بوائل غنيم والذي جعلوا من سوار معصمه والتي شيرت الذي يرتديه دليل حاسم على إرتباطه بالماسونية العالمية ، أو المفترى عليه دائما وأبدا الدكتور محمد البرادعي والذي تلاحقه الشائعات في صحوه ونومه قبل وأثناء وبعد الثورة، ناهيك عن نشر شائعات الترويع والإرهاب والتي تدعي وجود معتدين ومغتصبين يتهجمون على المنازل ونقص في الأغذية قد يؤدي لمجاعة قادمة.

الشائعات .. سلاح العصر القاتل والذي قد يبرر حتى قيام حروب بحجج تفتقد للمصداقية وتبرر إنتهاك لحقوق وحريات البشر دون ذنب جنوه سوى أنهم وقعوا في مرمى نيرانها التي لا ترحم.  

الجمعة، 18 مارس 2011

تعديل أم تغيير ؟

أحتلت مسألة التعديلات الدستورية المزمع التصويت عليها السبت 19\3\2011 عناوين الصحف وأصبحت تمثل الموضوع الأكثر مناقشة في البرامج الحوارية وعلى صفحات الإنترنت وتحول الأمر لمعركة بين معسكرين ، معسكر مؤيد بشدة للتعديلات ومعسكر معارض وأيضا بشدة للدستور الحالي ككل والعجيب أن يضم كل فصيل فئات لم نكن نحلم في يوم من الأيام أن تتفق على شئ وكذلك تختلف وجهات نظر فرق لم يكن من المتوقع أن تختلف بهذا الشكل في يوم من الأيام ، يركز الفصيل المعارض إعتراضه في سقوط شرعية الدستور المعمول به بسقوط النظام السابق مما يستدعي إنشاء دستور جديد ديمقراطي يتوافق مع تطلعات شباب الثورة ، ويعتبرون أن التعديلات الحالية لم تقلص من صلاحيات رئيس الجمهورية والتي هي أداة صنع ديكتاتور متفرد بالقرار وغير قابل للمحاسبة ، كما أن هناك إعتراض من البعض على قصْر إمكانية الترشح للإنتخابات لمصريي الجنسية والمتزوجين من مصريات ، ويعتبرون أن الفصيلين الوحيدين المؤهلين لخوض إنتخابات في المدى القريب هما الإخوان المسلمون والحزب الوطني  وهذا المعسكر الرافض للتعديلات يضم إئتلاف شباب الثورة والأحزاب الليبرالية واليسارية والجمعية الوطنية للتغيير وقيادات الكنيسة ، بينما يعتبر معسكر المؤيدين للتعديلات أن رفض التعديلات يعني بقاء الحكم العسكري لمدة أطول وقد تمتد إلى أكثر مما يمكن تخيله كما أنه يفتح الباب للكثير من الخلافات والشقاقات ويعطل مسيرة الديمقراطية المنتظرة كما أنهم يؤكدون أن الفرصة متاحة للجميع للمشاركة وأن الشعب المصري في الكثير من الدوائر الإنتخابية يعتمد على العلاقات القبلية والعائلية بأكثر من إعتماده على فكر أو سياسة المرشح وأن الديمقراطية تحتاج لسنوات حتى ترسي دعائمها ولا يمكن الإنتظار إلى الأبد لإكمال مسيرة الإصلاحات السياسية كما أن القبول بالتعديلات لا يمنع القيام بعمل دستور جديد بعد الإنتهاء من الإنتخابات ويضم هذا المعسكر الإخوان والسلفيين ونسبة كبيرة من المثقفين والمفكرين المستقلين وفلول الحزب الوطني الذي لاقى ضربات موجعة وفي الصميم بعد تخلي الكثير من قياداته عنه وسقوط الداعم الأكبر له والذي هو رئيس الدولة السابق.
كلا المعسكرين لديهما من الحجج والبراهين المنطقية ما يصعب الأمر كثيرا على المثقفين وحتى القانونيين فماذا سيكون الحال يا ترى بين عامة الشعب ؟
وعموما فالمشهد وإن كان مختلط ويجعل من الصعب التنبؤ بما هو قادم ، إلا أن ذلك ليس غريبا فممارسة الديمقراطية بعد عقود من الإستبداد تحتاج للكثير من التدريب والتأهيل وإجتياز التجارب المفترض علينا إجتيازها ودراسة النتائج ومواطن الخطأ والصواب فلا يمكن الإنتقال من حالة خضوع كامل لنظام فرعوني لا يرينا إلا ما يرى وبين نظام ديمقراطي يستطيع كل فرد من أفراد الشعب في ظله أن يكون له كلمة وصوت مسموع وتأثير في صنع القرارات المصيرية، في إنتظار ما ستؤول له نتيجة الإستفتاء والتي أرجو أن يراعى فيها معايير النزاهة والشفافية المفتقدة دائما وأبدا في الإنتخابات والإستفتاءات السابقة. 

الجمعة، 11 مارس 2011

تسونامي Tsunami

في فورة الغضب المستعرة في العديد من دول العالم وخاصة في منطقة الشرق الأوسط الأكثر سخونة وتفجرا في المنطقة، حيث تعالت الأصوات وتداخلت وسالت الدماء وأمتزجت وساد الهرج والمرج وكثر اللغط وأنتشرت الشائعات وعملت كل فرقة وكل طائفة وكل تيار في إتجاه مصالحها ونحو المزيد من المكتسبات ، تثور الطبيعة مجتاحة ما شيده بنو البشر في سنوات وسنوات ، تشعل الحرائق وتترك خلفها أعداد لا حصر لها من الضحايا .
أمام التسونامي تبدو مشاكلنا وصراعاتنا وأحلامنا وألامنا غاية في الضألة تضيع الصرخات أمام هدير المحيط الذي يعتمل تحت سطحه الكثير من الحركة والثورات والزلازل والتي تنشر أثارها المدمرة بقدر عظمة المحيط وعمقه ومائه الزاخر بالحياة والأسرار.
تنشأ موجات التسونامي المدمرة في المحيط الهادئ بسبب تحرك وإصطدام الصفائح التكتونية في طبقة الأرض السطحية  lithosphere  والتي تعوم على طبقة أخرى لزجة ساخنة تسمى طبقة asthenosphere حيث تتداخل الصفيحة الأثقل تحت الصفيحة الأخف محدثة هزة أرضية وتتسبب في حدوث رد فعل عمودي في صورة موجات متتالية عنيفة وتتجلى هذه الظاهرة واضحة في منطقة الحزام الناري المُمَيٌزة جيولوجيا  بالسلاسل الجبلية والخـنادق الـمـائية العمـيقة.
وتسونامي هي باليابانية مكونة من كلمتين "تسو" أي الميناء و "نامي" بمعنى موجات وهي تعبر عن سلسلة من الموجات المرتفعة والتي تسير بسرعة كبيرة جدا وصلت في تسونامي الذي حدث في 2004 إلى حوالي 480 كيلومتر في الساعة . هذه الموجات العملاقة المتسارعة قادرة على إحداث تأثيرات تدميرية بالمدن الساحلية لا يمكن حصرها ولا تداركها ويكون الحل الوحيد بإخلاء هذه المناطق التي تعرضت أو التي يحتمل أنها ستتعرض لها .
ومن أشهر موجات التسونامي التي تم تسجيلها:
* عام 2004 على شواطئ سومطرة والتي راح ضحيتها قرابة ال 280,000 شخص.
* عام 1976 على شواطئ الفلبين وراح ضحيته حوالي 5000 شخص.
* عام 1964 على شواطئ ألاسكا وراح ضحيته حوالي 132 شخص.
* عام 1896 على شواطئ اليابان وراح ضحيته حوالي 26,000 شخص.
* عام 1755 حيث دمر شواطئ البرتغال وأسبانيا والمغرب.
* وأخيرا تسونامي 2011 والذي لا يمكن تحديد الخسائر التي سيسفر عنها في هذا الوقت ولكن نرجو أن تكون أخف وطأة وأقل تدميرا فهذا العام ومنذ بدايته حمل لنا العديد من الهزات والكوارث وأصبحت أعداد الضحايا التي تسقط حولنا وأمامنا بشكل يومي شئ مفزع وإن كانت ثورات الطبيعة أكبر وأقوى من أن نتحكم بها ولا نملك لها إلا محاولة تقليل الخسائر الناجمة عنها فثورات البشر على الظلم ومطالبتهم بحقهم في الحياة لا يجب أن يسفك بسببها كل هذه الدماء البريئة ، وكذلك فالصراعات العرقية والطائفية والناتجة عن أنانية البشر وجهلهم بأن الجميع متساوين وليس من حق أحد أن يفني الأخر ليعيش أو يحرمه حقوقه ليتمتع هو بما ليس له يجب أن تتوقف. فالصراعات البشرية يمكن إيقافها بالقليل من التعقل والفهم، لماذا يتصرف الجميع وكأن نهاية العالم غداً؟

الأحد، 6 مارس 2011

ثائرة

من أروع ما يميز الثورة التي تهز كيان الإستبداد وتجوب أفاق الوطن العربي من أقصاه إلى أدناه أنها ثورة عامة شاملة لم تعترف بجنس أو لون أو طائفة أو طبقة ، ولذلك فليس من الغريب أن تكون المشاركة الأنثوية فيها فعالة وحاضرة بشكل واضح ، شكل لم يعهده المحللين والمتباكين على ضعف تمثيل المرأة في العمل السياسي ، ولكن إذا نظرنا للأمر بشكل أعمق فالمرأة لم تكن بمعزل عن الأوضاع العامة والمناخ الإستبدادي الذي جعل من العمل السياسي شئ صوري لا قيمة له ، فإما أن تكون فرد في منظومة الفساد وإما فأنت متهم مطارد مهدر الحقوق بموجب قانون الطوارئ ، وبالرغم من الضغوط التي مورست على المعارضين والمعارضات إلا أن ذلك لم يمنع ظهور معارضات مؤثرات في غاية القوة سواء في جيل الرائدات أمثال الأستاذة المبدعة سكينة فؤاد أو في جيل الشابات أمثال الكاتبة نوارة نجم ،  كما تلاحظ نمو ونضوج في نسبة كبيرة من الأجيال الجديدة من طالبات الجامعات والخريجات جعلهن أكثر إهتماما بمصير الدولة والتي كانت تقاد بأيدي الفاسدين لمصير مظلم فالسياسة لم تعد قاصرة على حزبيين أو ممثلين لتيارات خاصة وإنما تعدت ذلك كثيرا لتقتحم على الشباب والشابات حياتهم وأحلامهم والتي كانت مهددة دائما بشبح البطالة والفقر وإهدار الحقوق  مما جعل البحث عن مخرج من هذه الكوابيس يصطدم دائما بنظام الحكم ويعود في النهاية إلى ضرورة إنتزاع الحق المسلوب والذي تعذر إسترداده بالقانون في وجود نظام لا يحترم أحكام القضاء.
 ومن الملاحظ أن الفتيات أصبحن أكثر جرأة وتخلصن من ميراث ثقيل تناقلته أمهاتنا بأن الفتيات عليهن فقط السمع والطاعة والإبتعاد عن إبداء الرأي وخاصة إذا كان هذا الرأي سيسبب نوعا من الإصطدام بأراء الكبار والمحيطين.
ودور المرأة في تأجيج الثورة لم يكن صنيعة الصدفة ولم يبدأ مع بداية الثورة ، ولكنه بدأ منذ سنوات بالحشد والتوعية عن طريق صفحات الإنترنت وشبكات التواصل الإجتماعي وكم شهدت صفحات الإنترنت من صراعات وسجالات بيننا وبين مؤيدين الحزب الحاكم في النظام المخلوع والذين كانوا يحاولون تغيير الحقائق وكسب كل ما يمكنهم من تأييد ، هذه الثورة الرقمية أستمرت لسنوات في العالم الإفتراضي حتى خرجت لأرض الواقع قوية جامحة كاسحة لم تصمد في وجهها أدوات القهر والتركيع التي طالما أستخدمت في المظاهرات الفئوية والأهلية السابقة وتمكنت من إخمادها بكل قسوة مرات عديدة .
وعندما أنطلقت شرارة الثورة كانت جميع الفئات ممثلة فيها لم تخاف الفتيات من مواجهة المدرعات وسقطت منهن شهيدات إلى جوار الشهداء ، وأعتصمت الفتيات والسيدات لم تغادرن الميدان وحتى تحقيق مطالب الثورة، وليس أروع من روح المؤازرة والدعم التي عمت الثوار فجعلتهم يحمون أخواتهم وأمهاتهم بأرواحهم ويتلقون عنهم الأذي قدر إستطاعتهم.
قد يكون الكثير من المحللين والمتابعين أستطاعوا حصر الخسائر المادية والمعنوية التي نتجت عن الثورة ، ولكن من وجهة نظري المتواضعة أن مكاسب هذه الثورة تستعصي على الحصر ، فتوحيدها للصفوف وإخراجها لمعاني رائعة كنت أظن أنها أندثرت إلى الأبد من مجتمعنا مثل الإيثار والترابط والإنتماء شئ لا يقدر بثمن .
ومازال الطريق طويل وصعب أمام المرأة العربية في مرحلة ما بعد الثورة لترتقي المكانة اللائقة بها وتحصل على التمثيل الذي يتماشى مع تضحياتها ومجهوداتها في تأجيج ودعم الثورة.

السبت، 5 مارس 2011

الثقة confidence

في ظل الإضطرابات السياسية التي تعصف بالعالم العربي الأن فيما يمكن أن يطلق عليه صحوة عامة وشاملة أستنفرت المهمشين والضائعين وأستجابت لأصوات الحكماء والشرفاء والتي ظننا أنها ذهبت سدى حتى جائت ساعة الحساب ووقف أصحاب الحقوق المهدرة في وجه ظالميهم بعسكرهم وجبروتهم ‘ لم تعيدهم المدرعات والدبابات لديارهم فقد أصبح الموت أفضل من الحياة في الذل والعار ، ولم تعدم النظم المتسلطة وسيلة نفسية كانت أو مادية لخنق هذه النفحة الحرة التي سرت في أجساد الشعوب فتارة كانت الضغوط بالعسكر والنار وتارة كانت الضغوط بالترهيب بالفوضى وإنعدام الأمن وعندما لم تفلح تلك الوسائل أصبح التهديد بإنهيار الإقتصاد وفرار رأس المال وشبح الجوع القادم هو أخر المحاولات البائسة للضغط على الشعوب ومحاولة تركيعهم ، ولكن هل كانت هناك ثقة حقيقية تدفع برأس المال لإدارة عجلة إقتصاد سليم في ظل حكومات ديكتاتورية تفتقد لأدنى درجات الشفافية ولا تعترف بسيادة القانون ؟
عندما تدار الدولة بثقافة إحتكار السلطة وإحتكار رأس المال يصبح هناك أزمة ثقة تجتاح الجميع ويحجم الناس عن محاولة ضخ أموالهم في مشاريع صغيرة تنعش السوق وتزيد من فرص العمل فهناك دائما حيتان كبار قادرين على إبتلاع الأسماك الصغيرة التي تحاول السباحة في بحر الأعمال وقد تكون نشأة الشركات المتعددة الجنسيات التي التهمت الأسواق العالمية في السنوات السابقة هي ما خلق الأزمة المالية العالمية ، والتي وجدت مناخ مناسب في ظل حكومات تفشت فيها مظاهر الفساد من رشوة وإلتفاف على القوانين وإنعدام للرقابة والمسائلة ، ولذلك فالمنطق يقول أن إزاحة الفساد هى أولى خطوات بناء إقتصاد قوي جاذب لرأس المال ومن الغريب أن يكون للفسيولوجيا دور في بناء الثقة فقد وجد العلماء أن الشعوب التي تعاني من أزمات مالية وإقتصادية ينخفض لدى أفرادها إفراز هرمون الأوكسيتوسين oxytocin  والذي يعمل أيضا كناقل عصبي وهو عبارة عن بروتين صغير مكون من تسعة أحماض أمينية ثبت علميا قدرته على تقوية أواصر العلاقات الإنسانية ويفرز مع حليب الأم فيقوي العلاقة بين الأم ووليدها كما أنه يسرع من عملية الولادة وهو ما يقوي العلاقة بين الزوجين ويخلق بينهما نوع من الثقة المتبادلة.
ولبيان مدى تأثير هذا الهرمون على العلاقات الإقتصادية قام العلماء بإجراء تجربة عملية وظفوا فيها متطوعين لا يعرفون بعضهم البعض وتم تقسيمهم لمجموعتين (أ ، ب) وتم توزيع عشرة دولارات على كل واحد وطلب من المجموعة "أ" أن ترسل جزء من العشرة دولارات حسب الرغبة لفرد في المجموع "ب" بحسب ما يجود هو به ويتم مضاعفة هذا المبلغ ثلاثة مرات وتضاف هذه الهبة على حساب الشخص الثاني في المجموعة "ب" فإذا تبرع فرد في المجموعة "أ" بخمسة دولارات يحصل الفرد في المجموعة "ب" على (3x5) وتضاف على مكافئته الأساسية "العشرة دولارات" فيكون مجموع ما يحصل عليه 25 دولار .
وفي المرحلة الثانية يسمح للفرد في المجموعة "ب" أن يعيد جزء من المال الذي حصل عليه لفرد في المجموعة "أ" مع التأكيد بأنه غير ملزم بإعادة أي شئ للطرف الأخر وأن المبلغ الذي سيرسله سيصل كما هو دون زيادات ، وبعد أن قام الجميع بخياراتهم تم أخذ عينات من دمائهم لفحص نسبة الأوكسيتوسين oxytocin ومقارنتها بالخيارات التي أتخذها الأفراد محل التجربة . ويعتبر علماء الإقتصاد أن نصف التجربة الأول هو مقياس للثقة بينما النصف الثاني هو مقياس للوفاء . وقد أثبتت التجربة أن المبالغ المالية التي أرسلها الناس تلقوا ردا عليها بنسبة 98% فكلما زادت الثقة زاد الوفاء وكلما أرتفعت نسبة الأموال التي تم تحويلها أرتفعت نسبة هرمون الأوكسيتوسين oxytocin  المفرزة وعمليا فقد بدأت أجسام الفئة "ب" في إفراز الهرمون بعد تلقيهم الأموال من الفئة "أ" مباشرة . وتكمن أهمية هذا الهرمون في الجسم في الفترة الطويلة نسبيا التي يحتاجها البشر في الحضانة والرعاية وحتى ما بعد سن المراهقة فهذا الهرمون يوفر نوع من الترابط القوي بين أفراد الأسرة الواحدة لحماية الأطفال وحتى يستطيعون رعاية أنفسهم والإعتماد على الذات ومواجهة الحياة .
ولحسن الحظ فإن هذا الهرمون يفقد تأثيره أو لا يعطي تأثير كافي في حالة تعاطيه بالوسائل الصناعية أي أنه يجب أن يفرز في علاقة إنسانية طبيعية صادقة وإلا كان يمكن إستخدامه للتأثير في الجماهير أو التلاعب بهم .
ومن العجيب أن تسجيل قياس نسبة ضئيلة من هذا الهرمون تزامنت مع أرتفاع نسبة هرمون الديهيدروتستوستيرون dihydrotestostérone والذي يجعل من الذكور أكثر عدوانية مما يؤكد أن المناخ الذي تقل فيه الثقة أو تنعدم يتسم بالعدوانية وهذا ما كان ملموسا وبقوة في مجتمعاتنا التي فقد فيها الناس الثقة بالنظام وأصبحوا أكثر عدوانية وتشككا في كل ما يحيط بهم ويفسر أيضا كيف أن إسقاطهم لرموز الفساد والتي صنعت حالة إنعدام الثقة من الأساس وثقت العلاقة بينهم وجعلتهم أكثر محبة وترابطا ولغت الفروق الفردية والطبقية والطائفية بينهم .
محاربة الفساد هي أهم وأول خطوة ليس فقط لبناء إقتصاد أكثر قوة ، ولكن لبناء إنسان ومجتمع أكثر ترابطا وأقوى إنتماءً لوطنه.