الثلاثاء، 23 فبراير 2016

خدش حياء مجتمع فاقد للحياء


لم أكن قد سمعت من قبل بالكاتب أحمد ناجي، وحتى نشرت الصحف خبر الحكم بالسجن عليه لعامين بتهمة "خدش الحياء"، وذلك بعد قرار النيابة باستئناف القضية، والتي حكم فيها مبدئيًا ببرائة الكاتب.

واستوقفتني كثيرا التهمة المنسوبة للكاتب، فما الذي يمكن أن يخدش الحياء في مجتمع احتل المركز الأول على مستوى العالم في مشاهدة المواقع الاباحية مع العلم بأن سرعة الانترنت لديه هي الأقل على الاطلاق، واحتل المركز الثاني في التحرش بعد أفغانستان، ولم يستطع منع برنامج مثير للغثيان مثل "وش السعد" وبنظرة فاحصة على التعليقات التي يتركها معظم مستخدمي الانترنت على الصحف في مواقع التواصل الاجتماعي سيدهشك درجة فجاجتها واغراقها في الاباحية.

وكمحاولة لفهم حجم الجريمة التي استحقت أن يحكم على صاحبها بالسجن عامين، قمت بتحميل الرواية وقراءتها وبالرغم من وصفه لبعض المشاهد الجنسية إلا أن كتب الأدب عامرة بمثل هذه الأوصاف، والكثير من الكتب التي تذخر بها المكتبة العربية تحمل مثل هذه المشاهد، وبنظرة الى كتب مثل الف ليلة وليلة، أو كتاب الوشاح في فوائد النكاح ستعرف أن الأمر معتاد في الكتابة الأدبية على مر العصور وليس دخيلا على الكتاب العرب، والكثير من الشعراء قديمًا وحديثًا لم يتورعوا عن الكتابة بتعبيرات يعتبرها المجتمع خادشة للحياء منهم نزار قباني الذي تجوب أشعاره الأفاق، ومنهم  عبد القادر الجنابي ومنهم حسين مردان، وحتى كبار الكتاب من غير العرب مثل الكاتب البرازيلي الأشهر باولو كويلو والذي ترجمت كتبه إلى معظم لغات العالم، وتنتشر في مصر بأكثر من لغة في المكتبات وعلى الأرصفة،  يوجد له بعض الكتابات التي تتحدث عن الجنس وبشكل مباشر مثل ١١ دقيقة، لم يمنعها أحد او يعترض عليها أحد، ولا أعرف أديبًا من قبل تعرض للسجن بسبب هذا النوع من الكتابات.

ولأننا اعتدنا في بلادنا على سجناء الرأي، والذين ينقسمون إلى قسمين لا ثالث لهما، المتطاولون على الذات الإلهية، والمتطاولون على الذات الحاكمة، فكان لزامًا عليّ أن أبحث بين طيات كتابه عن أحد المحرمّين، ووجدت فيه ما فيه من إيماءات "سياسية" أرجح أنها هي التي ارسلته إلى السجن وليس الايماءات "الجنسية" بحسب المعلن، ففي أحد مقاطعه ينتقد حكم الجنرال الذي كمم الأفواه، وفي مقطع آخر يصف الشرطي بالفأر الأسود، بعد اعتداء دورية شرطية على كشك وصاحبه العجوز المريض.

والكتاب كله يتحدث عن ما وصلت إليه القاهرة من مستوى غير محتمل في التلوث والعشوائية والزحام والفقر وصعوبة الحصول على الفرص، يتحدث عن سلوكيات الناس التي تربت في وسط هذا العذاب اليومي والصراع من أجل البقاء، يقول لك أن الناس في هذه المدينة فقدت القدرة على الإبتسام، وحتى الإبتسامة التي يقدمها لك احدهم ينتظر في مقابلها مقابل مادي، يسهب في الحديث عن الوسائل التي يغرق فيها الشباب نفسه لينسى للحظات كيف تدهس هذه المدينة أحلامه وآدميته بلا رحمة، يستخدم في بعض الأحيان الفاظ سوقية خارجة، ولكن هي بالضبط التي تسمعها في الشارع وتقرأها على الإنترنت وأصبحت حتى الفتيات لا تتحرج من قولها.

وأتعجب حقًا من الهجوم الجماهيري على الكاتب حتى أن البعض لم يتورع عن المطالبة بجلده وإعدامه ليكون عبرة لمن يعتبر، إذا كنتم على هذا القدر من الأدب والحياء فامنعوا نشر الكتب لا تحبسوا الكاتب، إذا كنتم مجتمع مثالي طاهر لا يعرف الإباحية امنعوا نشر هذه الكتب، إذا كانت الكلمات قد خدشت حيائكم امنعوا نشر هذه الكتب.

أيها الأنقياء الذين لا تجدون في كل ما يحيط بكم غير كلمات نشرت في كتاب مغمور لتخدش حيائكم، الفقر خادش للحياء، الفساد خادش للحياء، القتل تحت التعذيب خادش للحياء، الإخفاء القسري خادش للحياء، القتل خارج القانون خادش للحياء، المسرطنات التي تدخل أبدانكم، لحوم الحمير، سد النهضة، القمامة، العشوائية، مستوى التعليم، مستوى الرعاية الصحية، خنقكم المستمر بالغلاء والجمارك والضرائب، الطبقية، التلوث، إنهيار البنية التحتية، الإحتكار، الإعلان عن مشاريع وهمية، المؤبد لطفل في الرابعة، سجين التيشيرت، سياسة الإفلات من العقاب، إخراس أي صوت معارض، الإعلام العاهر، كل هذا لم يخدش حيائكم!

الخميس، 18 فبراير 2016

شيطنة الآخر وقصور العقلية الأمنية


 

تتشابه الأساليب الأمنية التي تتبعها حكومات الاستبداد العربية بشكل مثير للدهشة، فكلهم يبسطون سيطرتهم على الإعلام، وينتهجون سياسة تكميم الأفواه، وكلهم يرفضون الانصياع للرغبات الشعبية مهما كانت منطقية ومشروعة، او حتى لن تكلفهم او تؤثر على سلطتهم، بل بلغ الأمر ببعض الحكومات لاتباع ما هو عكس الإرادة الشعبية على طول الخط، في اكبر وادق الأمور على حد سواء.

واكثر ما يلفت الانتباه، ما يتبعه هؤلاء من أسلوب شيطنة المعارضين، ولا يختلف هذا باختلاف اسم الدولة الاستبدادية، فعندما قامت الثورة في البحرين، وبالرغم من المطالب المشروعة التي رفعها المحتجون، وبالرغم من احقيتهم باعتبارهم من بني الانسان في انتخاب من يمثلهم، وفي وجود شفافية في توزيع المنح الدراسية والوظائف والثروات، الا ان السلطات البحرينية كثفت حملتها الإعلامية باتجاه طائفي، وكالت للمحتجين الاتهامات بالتبعية لإيران، وبتنفيذ اجندات خارجية، وتناست حجم التمييز الذي يتعرض له هؤلاء مهما تفوق ابناءهم، وصعوبة حصولهم على الفرص في دولة تنتهج سياسة التمييز الطائفي ضدهم، وتُفضّل الأغراب على أبناء الدولة من الطائفة المغايرة لهم.

واستطاعت هذه الحملة الإعلامية التأثير في اشخاص من المفترض أن شغلهم الشاغل الكفاح من اجل الحرية والمساواة ونشر الديمقراطية، فهم يدعمون ثورة الشعب المصري والتونسي والسوري، ولكن عندما تذكر لهم الثورة البحرينية، تتغير مبادئهم من النقيض الى النقيض وتجدهم ينطقون بلسان الإعلام المضلل ويقولون لك بضمير مرتاح: هؤلاء عملاء إيران!

لا يختلف الأمر كثيرا في اليمن، فعدوتهم من اكبر الدول النفطية ويمكنها التأثير بشكل واسع على وسائل الإعلام في العديد من البلدان، واستطاعت الآلة الإعلامية التي تديرها السعودية أن تُشيطن جماعة الحوثي، حيث جعلت منهم الذراع الإيراني في المنطقة والمنفذ الأبرز للخطة التوسّعة "الأمريكية – الإيرانية" وبالرغم من تصنيفهم انفسهم كحلفاء للرئيس اليمني علي عبد الله صالح سابقا، وحتى انه لجأ الي السعودية  للعلاج بعد تعرضه لمحاولة اغتيال، اصبح الان وبعد ان انتقل الى صفوف الرافضين للاعتداء السعودي على الأراضي اليمنية، من الد الأعداء، ولم تتوقف حملات التشويه التي شنتها الآلة الإعلامية السعودية على جماعة الحوثي، بالرغم من انهم ومنذ بدأت احتجاجاتهم لم يطالبوا بأكثر من توزيع عادل للثروات، وهو مطلب مشروع في كل الشرائع الإنسانية اللهم الا شريعة الاستبداد، كما ان العلاقة "السعودية – الأمريكية" القوية والواضحة والتي أعربت عن قوتها ومتانتها في العديد من المواقف،  تجعل من الحديث عن مؤامرات واتفاقات "إيرانية – أمريكية"  نوع من الهزل لا يجب ان يمر على طفل صغير.

ولا يختلف الأمر عند قياس رد الفعل الشعبي في الكثير من الشعوب العربية، في الشأن اليمني، عندما تنادي بوقف الاعتداءات السعودية على الأراضي اليمنية، وتُظهر للناس التقارير الدولية التي تؤكد انهم يقصفون المدنيين بالأسلحة المحرمة، ومنها القنابل العنقودية، وتطالب هؤلاء المنصفين ان يدينوا الاعتداء السعودي الغير مشروع  على أراضي اليمن، تجد كثيرا منهم يترددون بحجة ان الوضع معقد وشائك وان الحوثيين ورائهم ما ورائهم من مخططات واجندات إيرانية، فلا داعي اذا لإدانة العدوان، وليموت المدنيين.

وبالطبع ليست السلطات في مصر بمعزل عن مثل هذه السياسات، فعندما خُلع الرئيس محمد مرسي واعتصم البعض في ميداني رابعة والنهضة، وبالرغم من ان معظم هؤلاء كانوا من البسطاء القادمين من عمق القرى معتقدين انهم يخدمون الإسلام، وليس لهم علاقة باي أيديولوجيا تنتهجها جماعة الإخوان المسلمين، ايدت أغلبية الشعب حرقهم احياء، بعد ان تأثروا بالحملة الإعلامية الممنهجة التي شنتها الحكومة المصرية ضدهم، باعتبارهم إرهابيين مخربين، وتمادت الحكومة المصرية في الصاق كل مشاكل الدولة وتداعيات الإهمال والفساد وغياب التخطيط بالإخوان، فالإخوان قاموا بسد بالوعات الإسكندرية لذلك غرقت الشوارع عند سقوط الأمطار، والاخوان يجمعون الدولار ويؤثرون على سعر الجنيه، وكل من يعترض على الفساد والبلطجة وسوء استخدام السلطة وارتفاع الأسعار اخوان حتى ولو كان اسمه "مينا" او "جورج".

وتستمر سياسة شيطنة المعارضين، لتلقي بظلالها على اي اعتراض تبديه فئة من الفئات على انتهاك حقوقها، فعندما تعرّض اطباء للضرب من قبل امناء شرطة بسبب رفضهم تزويرتقرير طبي يضخم من اصابة واحد منهم، وتكررت الحوادث من هذا النوع في عدة مستشفيات،  واتخذت نقابة الأطباء اجراءات منطقية لحماية المنتسبين لها وسط تأييد شعبي، قامت الحكومة المصرية بشن حملة تشويه اعلامية غير مسبوقة عليهم بشكل مثير للسخرية، فطبيب يدير شبكة دعارة، وطبيب يسرق خصية مواطن، وطبيب يستأصل نصف كبد ونصف طحال صديقه عند قيامه بعمل جراحة تدبيس معدة له، وطبيب يتزعم عصابة تقوم بجمع الدولارات لضرب الاقتصاد المصري، والاخبار من هذا النوع والتي طفت على السطح فجأة اكثر من الحصر، فاقبلوا يا شعبنا العزيز بضرب الأطباء بالأحذية طالما انهم سيئون مهملون  استغلاليون فاسدون.

لقد ساهم هذا الاسلوب بشكل كبير في تغيير الشخصية المصرية من كثرة ما تم ممارسته على الناس في البلاد من تغييب للوعي، فأصبح الجميع مدان واصبح الجميع يستحق ما يناله من تنكيل واهدار للحقوق، 6 ابريل، اشتراكيون ثوريون، شباب 25 يناير، البرادعي، باسم يوسف، حتى امرأة طالبت بحقها في عدم ركوب الرجال عربة السيدات في مترو الانفاق، وتعرضت للضرب من امين شرطة لم يعجبه ذلك، لم يعترض احدا ممن حضروا الواقعة على ضربها، وانما دفعوها دفعا لخارج عربة المترو لتنال ما تستحقه – من وجهة نظرهم – من تنكيل على مطالبتها بحق من حقوقها، او اخرى يتحرش بها أمين شرطة بشكل فج فلا يتدخل احد، ويتركونها تواجه مسلح يعتبر نفسه فوق القانون، حتى حضر زوجها وخلصها من براثن هذا الغير أمين، او سيدة تتعرض لانتهاك ممنهج لحياتها بسبب فضحها للفساد، فيشارك الجميع في ايذاءها ولا تجد لها نصيرا، ومئات الشباب من الطلبة الجامعيين يتعرضون للاختفاء القسري، ولا يحرك احد ساكنا، طفل يقضي افضل سنوات حياته مسجوناً لارتدائه قميص كُتب عليه "وطن بلا تعذيب" وبالرغم من مطالبة كل المنظمات الحقوقية باطلاق سراحه الا انه يتم تجديد حبسه شهور تليها شهور، اختفاء كامل لأي اثر لمعاني على شاكلة، النخوة والشهامة والرجولة من معظم افراد المجتمع، لا يعتقد احد انه معرّض في اي لحظة لأن يُمَارس عليه ظلم من هذا النوع الذي يدعمه، أو في افضل الحالات لا يدينه.

ولا أجد في النهاية ابلغ من مقولة القس الألماني مارتن مويلر المعبرة ببلاغة شديدة عن الحقبة النازية لتعبر عما اردت قوله، حيث قال:

"عندما قبضوا على الشيوعيين لم احتج، فلم أكن شيوعيا، وعندما قبضوا على الاشتراكيين والنقابيين لم احتج، فلم اكن ايا منهما، وعندما قبضوا على اليهود لم احتج، فلم اكن يهوديا، وعندما أتوا للقبض عليّ لم يكن قد تبقى احد ليحتج على ذلك!"

الثلاثاء، 29 ديسمبر 2015

فياض ورائف

في أوطاننا فقط يمكن للكلمة ان تقتلك وتجلدك، في أوطاننا فقط تحكم المحاكم بالشبهة ويسمحون لأنفسهم بالتفتيش في الضمائر
ودائما ما يلفت الأنظار لأصحاب الفكر ثلة من الوشاة الحاقدين والذين يعرفون فقر موهبتهم وقصر قامتهم الى جوار هؤلاء العمالقة، والذين يكون لديهم بكل أسف قدرة على النفاذ لأهل الرأي والحل والربط، فتكون وشايتهم مؤثرة وأحيانا قاتلة للضحية الذي كانت جريمته الوحيدة هي إعمال العقل.
لا يخفى على أحد محنة الفيلسوف العبقري ابن رشد الذي تعرض لكل أصناف الترهيب وطرد وأحرقت كتاباته واتهم بالكفر فكيف يفند أقوال إمامهم الذي أقنعهم بأن الكرة الأرضية معلقة بين قرني ثور!
والتاريخ حافل منذ القدم بهؤلاء الذين راحوا ضحية فكرهم الصحيح الذي اثبت صوابه فيما بعد، وكان دائما ألد أعداء اصحاب الفكر والعلم هم مدعون التدين الذين رأوا في التحليل العلمي والبحث هدما لعروشهم التي أقاموها على أساس من الجهل وبدعم من الجهلاء.
يطالعنا التاريخ بحادثة سجن ونفي أنكساجوراس الذي قال بأن الكواكب ليسوا بآلهة وأن الشمس كرة من المعدن المتوهج مما يتنافى مع العقيدة الأثينية في ذلك الوقت، مما أثار حفيظة الكهنة فكفروه وحكم عليه بالإعدام ثم تم تخفيف الحكم والاكتفاء بنفيه من البلاد.
ولقى سقراط حتفه بنفس الأساليب ولم يختلف مصير عالمة الرياضيات هيباتيا والتي كانت تدرس فلسفة أرسطو في وجود أسقف يكره العلماء والمفكرين، والقول بكفرهم وسط العامة مما دفع الناس دفعا وبعد أن قام بغسيل مخ لهم بالهجوم عليها وتمزيق جسدها عارية وتركها للكلاب الجائعة تنهشها.
والكل في عالمنا الإسلامي يعرف بمأساة الحلاج التي صيغت فيها عشرات الكتب، ولم يكن حظ السهروردي بأفضل منه حيث لاقى حتفه بنفس التهمة الأبدية الخالدة "الكفر والزندقة".
وليس مفكري عصرنا بأوفر حظا من هؤلاء ولا شرطة الفكر بأفضل حلا، فكم من مفكر تم تكفيره وقتله وانتهاك حياته وتشويه سمعته أو مقاضاته بسبب ما أعتبره البعض تطاولا على الذات الإلهية أو بمعنى أصح وأكثر وضوحا "تم ضبطه بتهمة اعمال العقل والتفكير خارج صندوقهم المظلم".
على سبيل المثال لا الحصر، ما واجهه الدكتور فرج فودة من اغتيال بسبب مطالبته بعد استخدام الدين في أغراض سياسية، وما تعرض له كاتبنا العظيم نجيب محفوظ حائز جائزة نوبل في الأدب من تكفير ومحاولة اغتيال بسبب تطويع البعض لنصوصه وتحميلها ما لا تحتمل، والهجمة الشرسة التي تعرض له عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين من تكفير واتهامات بازدراء الدين والمطالبة بمحاكمته، والدكتور نصر أبو زيد الذي اتهم أيضا بالكفر وتمت مقاضاته بدعوى للتفريق بينه وبين زوجته، حيث اضطر أخيرا لمغادرة البلاد الى هولندا.
وأخيرا وليس أخرا الأحكام التي صدرت على كلا من أشرف فياض ورائف بدوي بإعدام الأول وجلد وسجن الثاني لنفس الأسباب وبنفس المبررات.
وبمراجعة العقوبة الشرعية التي اتفق عليها شيوخ الإسلام عن حكم الردة، وجدت ان المتهم بالردة الذي ثبتت عليه ردته يستتاب لثلاثة أيام بلا ضغوط من أي نوع فإذا تراجع عن ما يعتبره هؤلاء كفرا لم يقام عليه الحد، ولا أعرف حقا من أين جاء المكفرون بأحكامهم ومن أي شريعة يستقون أفعالهم.
ومحاسبتك على النية والفكرة التي لم تخرج حيز التنفيذ، في أوطاننا فقط لا تختلف مع من هم أكبر منك حتى لا تزهق روحك بمقتضى قانون الأقوياء، في أوطاننا فقط من حق الكبار أن ينزعوا عنك ديانتك ووطنيتك ويتهمونك بالخيانة والإلحاد دون أسباب منطقية، في أوطاننا فقط لا يعترفون بالكناية والتورية والأساليب البلاغية الأخرى التي يتقنها كل من يستحق لقب شاعر أو أديب، في أوطاننا فقط توجد شرطة الفكر التي تعتقد أنها أعطيت تفويض إلهي بقتل من تعتبره خارج عن النص ماديا أو معنويا، لم يسلم أصحاب الفكر في بلاد العرب من المطاردة والتنكيل والتكفير، لم يسلم هؤلاء من حرق كتبهم ونفيهم وحتى قتلهم بأبشع وسائل القتل، ولا عجب ان تقترن هذه الأساليب بما وصلت اليه البلدان من مستوى موغل في التخلف والفساد وقرب أفول نجمهم، فعندما تنتشر الخرافة ويكرم الجهلاء ويحمل لواء الدين المتعصبين والمتزلفين للسلطان، ينتشر التكفير والقتل على النية.

رواية اورويل الخالدة 1984 واسقاطات على الحالة المصري

رواية جورج اورويل الخالدة 1984، هي من الروايات القليلة التي تصيب كل من يقرأها بحالة من الابهار والإعجاب، وذلك ليس فقط من قوة اللغة وجمال السرد، ولكن والأهم لما فيها من نظرة مستقبلية للأحداث وتحليل سياسي مبدع، يجعلك وبدون أن تتعمد تسقط كل ما جاء فيها على الأوضاع الحالية وأساليب الديكتاتوريات والأنظمة الإستبدادية في تغييب واستئناس الشعوب وكذلك في أساليب السيطرة على الجموع ونشر الرعب من أي محاولات إنقلابية على سلطة الأخ الأكبر، وكيف تدار الألة الإعلامية ليس من أجل نشر المعرفة والحقيقة وإنما على العكس من أجل تغييب الحقائق والعبث باللغة وتزوير التاريخ بما يفيد الحاكم الواحد ويعزز من مكانته لدى الجموع.
حتى الحقائق الأكثر منطقية يمكن العبث بها، ففي حوار بين اوبراين ووينستون يتهم اوبراين صديقه بأنه بطئ التعلم وعندها ينتحب ونستون ويقول كيف يمكنني أن اكذّب ما تراه عيني ان 2 + 2 = 4 فيجيبه اوبراين ان الناتج قد يكون 4 وقد يكون 5 أو 3 وأحيانا يساوي 3 و 4 و 5 في آن واحد.
أتذكر هنا تصريحات السادة الوزراء في عامنا هذا الذي أوشك على الإنتهاء، منها تصريح وزير الإتصالات عن الانترنت "سرعة الانترنت هاتبقى فووووو"، وتصريحات وزير السياحة بعد كارثة سقوط الطائرة الروسية "هانسد الخرم اللي انتوا قلقانين منه" ، أو تصريح وزير الشباب والرياضة خالد عبد العزيز الذي يقول فيه " مفيش بطالة وراتب الطفل في البقالة 3000 جنيه" أما التصرح الأكثر إثارة للتأمل فكان تصريح وزير البترول اللوزعي طارق الملا أن "أزمة البنزين إيحاء نفسي!!!!".
كذب عينيك ولا تفكر كثيراً ولا تشتكي، كل شئ متوفر ولا يوجد مشكلات، وإن وجد فهي فيك أنت، أنت كسول لا تحب العمل وأزمة المحروقات هي أوهام ينسجها لك عقلك المريض.
أما أروع ما قرأت في الرواية فهو محاولات الحزب الحاكم المنظمة لطمس اللغة وتجريدها من مزاياها وذلك بأساليب شيطانية، فهم يعمدون إلى تقليل عدد المفردات المستخدمة في الصحف ووسائل الاعلام، حتى أنهم يعمدون الى قتل عشرات المفردات يوميا حتى لا يجد الإنسان وسيلة للتعبير أو التفكير وبدلا من أن يكون التفكير مجرم يصبح غير ممكن من الأساس وبتعبير الكاتب "إننا نسلخ اللغة حتى العظام"، "كل مفهوم يحتاج إليه الناس سيتم التعبير عنه بكلمة واحدة محددة المعني وغير قابلة للتأويل .. أما معانيها الفرعية فيتم طمسها حتى تصبح طي النسيان " "الكلمات تتناقص عاما بعد عام .. كما يتضاءل مدى الوعي والإدراك شيئا فشيئا .. بل وحتى في الوقت الراهن ليس هنالك سبب أو عذر يبرر اقتراف جريمة الفكر .. لقد باتت المسألة مجرد انضباط ذاتي وضبط يفرضه المرء على واقعه .. وفي النهاية لن تكون هنالك حاجة حتى لذلك ." ثم يختتم الكاتب هذه الفقرة باستنتاجه المبدع "ستبلغ الثورة أوجها حينما تكتمل اللغة ويتم إتقانها!".
أليس هذا ما يحدث حولنا بالفعل، بنظرة سريعة وفاحصة على ما يبثه التلفاز من برامج، ستجد لغة هابطة خالية من أي جمال وأسلوب سوقي مثير للإشمئزاز ومقدمون لا يتمتعون بالحد الأدنى من المهارات اللغوية والحوارية وثقافتهم غاية في الضحالة والفقر.
لا يختلف الأمر عندما نحاول أن نتفحص الأفلام والمسلسلات المقدمة في عصرنا هذا، نفس الألفاظ السوقية نفس الهمجية لا تطرح فكرة ولا تقدم حتى قيم جمالية.
وفي حوار أخر بين وينستون واوبراين يتسائل اوبراين: "كيف يؤكد إنسان سلطته على إنسان آخر يا وينستون ؟"
فيجيبه وينستون ببساطة: "يجعله يقاسي الألم"
ثم يسترسل اوبراين في شرح ما فهمه من الإجابة فيؤكد أن الطاعة ليست كافية وأنه يجب ان يقاسي الإنسان الألم لتعرف هل هو ينصاع لإرادته هو أم إراداتك انت!
ويعرّف اوبراين لنا السلطة قائلاً: "إن السلطة هي إذلاله و إنزال الألم به، وهي أيضا تمزيق العقول البشرية إلى أشلاء ثم جمعها ثانية وصياغتها في قوالب جديدة من اختيارنا."
وفي النهاية يصل إلى استنتاج أكثر دقة حيث يصف عالمنا بأنه عكس اليوتوبيا وأن عالمنا لا مكان فيه سوى للخوف والغضب والإنتشاء بالنصر وإذلال الذات.
هل يختلف هذا كثيراً عمّا نراه حولنا من قتل تحت التعذيب واختفاء قسري وسجون لا تحمل القدر الأدنى من المواصفات اللائقة بالبشر، هل يختلف ذلك كثيراً عن سجن الصحفيين وإسكات أي صوت معارض أو حتى مفكر ومطاردته الى أقاصي الأرض وكيل التهم له بالخيانة والعمالة وحتى الكفر .... الخ
ويمضي بنا اورويل برحلة في فكر الديكتاتور فيقول: "إننا ندرك أنه ما من أحد يمسك بزمام السلطة وهو ينتوي التخلي عنها.
إن السلطة ليست وسيلة بل غاية، فالمرء لا يقيم حكما أستبداديا لحماية الثورة، وإنما يشعل الثورة لإقامة حكم استبدادي.
إن الهدف من الاضطهاد هو الأضطهاد، والهدف من التعذيب هو التعذيب وغاية السلطة هي السلطة."
ومرة أخرى لا تغيب كلماته عن الواقع المعاش حولنا، وحتى بعد ثورة أسست لحكم أكثر ديكتاتورية، يدور النقاش الآن بين الأعضاء "المنتخبين" - اذا جاز لنا هذا التعبير - حول مد مدة حكم الرئيس وبالتأكيد لن يمانع هؤلاء في جعل الرئاسة تمتد به حتى نهاية العمر.
الأنظمة الإستبدادية لا تريد منك فكرا او فهما وإنما تريد ولاءً فقط وهو ما يتم غرسه في الجنود فيطيعون الأوامر دون تردد ودون تفكير، وهنا يأتي التعريف المعجز للولاء "الولاء يعني إنعدام التفكير، بل إنعدام الحاجة للتفكير، الولاء هو عدم الوعي. "
إن حزب اورويل يصل في استبداده أن يزرع الميكروفونات في كل مكان ويضع كاميراته في كل شارع ويضع صورة الأخ الأكبر في كل ركن وعلى كل مبنى، ينظر اليك ويراقب ولائك، وحتى الحب أصبح محرما في شريعة الحزب فهو قد يؤثر على ولائك وأصبحت العلاقات هي خدمة يؤديها المواطن للحزب لينجب أطفال تقوم بخدمة الحزب، وغير ذلك فهو خيانة يعاقب عليها القانون.
هل يختلف ذلك كثيراً عن التسجيلات التي تبث بين الحين والأخر للمعارضين والغير مطيعين لتفضح حياتهم الخاصة وتبين للآخرين أن الجميع مراقب وأن الجميع تحت السيطرة وأن الذي سيخرج عن النص سيتم تحطيمه بشكل أو بآخر والقضاء عليه ما لم يعود الى حظيرة النظام.
أو كما قال وينستون: "لم يعد هناك مكان أمن سوى سنتيمترات معدودة في الجمجمة!"
وتنتهي الرواية

الثلاثاء، 28 مايو 2013

أنا لم ألوث مياه النيل

آه يا روح الأرض .. يا إكسير الحياة .. يا دمعات السماء التي تترقرق خيراً ووفرةً وخصباً ونماء .. يا من علمّت البشر الحكمة والصبر والعمل وصنعت حولك أرقى وأعرق الحضارات الإنسانية .. هل من أرضها من لا يعرف فضلك؟ .. هل من أرضها من لا يدين لك بالحياة؟ .. هل من أرضها من لا تجري في عروقه مجرى الدم وتسري في جسده مسرى الروح؟ ..

"-أنا لم أغضب والدى ..  
-أنا لم ألوث مياه النيل. 
-أنا لم أصد الماء فى وقت جريانه.
-أنا لم أنقص القياس، ولم اغش فى الكيل ولم أطفف فى الميزان .
-أنا لم اطرد الماشيه من مراعيها.
-أنا لم أتسبب فى بكاء أحد.
-أنا لم أحرم انسانا من حق له.
-أنا لم أختطف اللبن من فم رضيع .
-أنا لم أطفىء شعله فى وقت الحاجه أليها."
                                                       كتاب الموتى
 
هكذا قال الأولون .. من تعلموا منك العطاء وعرفوا فضلك .. من علموا أنّه لا حياة لهم بدونك ولا بقاء ولا رغد.. وهكذا كان من تلاهم على العهد والوعد باقون .. مهما ثرت ومهما ضننت .. فأنت الحياة قسيت أم حنوت .. 
في كل العصور لم يملك الناس الا العرفان والحب .. حاولوا تطويعك وعملوا جاهدين على نيل أقصى ما يستطيعون من خيراتك .. وكنت دائماً عند العهد بك .. لم تخلف ولم تخون .. حتى خانوا العهد .. احتكروك بوحوش أسمنتية واستراحات للخاصة منهم ..  حجبوا رؤياك الحبيبة عن أبنائك .. لوثوك بمخلفاتهم .. قتلوا فيك الحياة وتركوا الأرض عطشى لك .. أرض بلادي التي طالما أنبتت أجود وأروع ما تنبت الأرض .. وفلاح بلادي الذي يحمل في جيناته خبرة ألاف السنين .. نبت بلادي الذي اقتات منه أعداد لانهائية من بشر وحيوان وطير.. والأن لا يجد أبنائها ما يقيم أودهم!! .. هل كنا ندرك أن الأسوء قادم؟ .. أن يمتنع عنّا أحد روافدك فيزيد العطش ويمتد السرطان الأصفر فيطغى على الأرض الخضراء .. ولا تجد من ينطق أو يرفع صوتاً محتجاً أو رافضاً .. لا كلمة .. لا فعل .. لا قرار وكأن المصيبة ليست عامّة ولا هامّة .. وكأن من بيدهم الأمر معنيون بإحراق الأخضر واليابس وقطع موارد الحياة عن الجسد الواهن!!   
وحتى في أحلك الأوضاع لا تتوقف آلة أكاذيبهم عن العمل .. فهي الشئ الوحيد الذي مازال يعمل وبكفاءة منقطعة النظير .. كذب غبي مثل من يطلقه .. كذب يثير الغضب فكأنهم يتحدثون لشعب فاقد العقل والفهم .. يجمعون أن سد "النهضة"- وما أكثر ما سدت النهضة في وجوهنا من ابواب - لن يؤثر على البلاد!!! .. فإذا كان نقص 12 مليار متر مكعب من أصل 55 لن يؤثر مع ما في مصر من فقر مائي "حد الفقر المائي بحسب الأمم المتحدة ألف متر مكعب سنوياً للفرد .. ينال المواطن في مصر 640 متر مكعب سنوياً فقط".. وإذا كان خفض توليد الكهرباء بنسبة 30%  - مع ما في البلاد من أزمة حقيقية في الكهرباء - لن يؤثر .. ناهيك عن الأثار المدمرة الأخرى للثروة السمكية والملاحة النيلية .. كل هذا في عرفهم يمكن الغاءه بكذبة جديدة تضاف إلى سجل أكاذيبهم اللانهائي .. ماذا بقى فيكِ يا بلادي على حاله في عصر الانهيار والانحلال .. هي طعنة جديدة في الجسد الواهن .. ولكنها هذه المرّة .. قاتلة!

الثلاثاء، 5 فبراير 2013

وكأن شيئاً لم يكن

عامان مضا .. خفَت الحلم .. وبهت الأمل .. وعاد الغضب يعصف بالنفوس .. وكل يوم يتكشف لنا مدى سذاجتنا وفداحة أخطائنا .. وكأننا لم نكن أكثر من لعبة يتحكم بمشاعرها وتطلعاتها لاعب ماهر لتحقق له أهادفه ولا يهم بعدها أن تنكسر أو يلحق بها عطب لا براء منه.
وكأننا سقطنا في فجوة زمنية حيث الأيام تتكرر بحذافيرها .. نفس المطالب .. نفس الأساليب .. نفس الإتهامات .. نفس الوجوه تطفو حينا وتغيب حينا لتعاود الظهور مجددا .. وقطار الكوارث يسير في اتجاه واحد نحو الهاوية لا يلتفت للجثث التي سقطت تحت عجلاته .. ولا يعي السائق نفسه أن السقوط في الهاوية لن ينجو منه أحد لا راكب ولا قائد .. وحتى خيار القفز لم يعد متاحا بعد الأن .. فالحساب ولابد قادم وأقرب مما يتصور أحد. 
يطالب الناس بعدالة إجتماعية يتحقق فيها تكافؤ الفرص وينال كل مجتهد نصيبه على قدر جهده ومؤهلاته .. وتظل الأولوية للأهل والعشيرة وأصحاب الثقة دون أصحاب الكفاءة والمؤهلين .. وحتى أن مطلب كوضع حد أقصى للأجور لن يكلف خزانة الدولة شئ بل على العكس سيوفر الكثير ويشعر العاملين في نفس المكان بوجود شئ من العدل .. توضع في طريقه العراقيل لتظل نسبة محدودة من كل مؤسسة تستنزف خيراتها بلا أحقية. 
يطالب الناس بإصلاح أحوالهم الإقتصادية فترتفع أسعار السلع وتزيد الضرائب وتشتعل تكلفة الخدمات المتهالكة من الأساس.
يطالبون بإحترام أدميتهم ومعاملتهم كبشر فتتفنن الحكومة في إيجاد سبل لإنتهاك وإهدار كرامتهم وأدميتهم وأي قيمة إنسانية لديهم. 
يحتجون على الموت تحت التعذيب فتزيد معدلاته وتعلو وتيرته ولا أحد يُحاسب. 
يطالب الناس بعقاب المهمل والإهتمام بأعمال الصيانة والرقابة حفاظاً على الأرواح فتكثر حوادث الإهمال الدموية ولا من محاسب ولا من مراقب.
لا يلوح في الأفق بوادر تحقيق لأي مطلب شعبي مهما كان شرعيا وبسيطا ولا حتى أي محاولة على الطريق لتحقيق هذه المطالب .. وكأنهم يعملون فقط على كسر ارادة الشعب وإحباطه والكيد له وتحطيمه نهائياً. 

كثيراً ما كنت أعجب للإتهامات المعلّبة الجاهزة التي كانت تلاحق المعارضين سابقا بالعمالة والخيانة لأمريكا والصهيونية العالمية .. وكنت أتسائل كيف يقول ذلك نظام تتغني الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية بكونه الصديق والكنز الإستراتيجي .. ولا يتغير الأمر الأن فالإتهامات مازالت تنهمر على كل معارض ومُطالب بالإصلاح ولكن أضيف اليها الكثير من عينة كافر وعلماني وليبرالي وشيوعي ومسيحي ومن أعداء الإسلام ... الى أخره من الإتهامات التي تنهمر عليك في كرم بالغ. 
ولا يمانع البعض من اعتبار مطالباتك بالإصلاح إفساد في الأرض وخروج على الشرعية ويستوجب بحسب شريعة المتأسلمين حد الحرابة. فلا يهتز لهم جفن من رؤية شباب يافع ناجح يُقضى تحت التعذيب بعد أن تم كهربته وتكسير عظامه واسنانه وسبل عينه بوحشية وبشاعة عز نظيرها!

لا يمانع هؤلاء في التحريض على التحرش بالفتيات الثائرات فهذا من وجهة نظرهم مشروع لترهيبهن وليبقين في المنزل ولا يزدن أعداد الأعداء بحسب تعبير بعضهم. 

لقد كنت أحد الذين لم يمانعوا في حكم الجماعات الإسلامية للبلاد وتصورت أن لديهم مشاريع تنموية فعلية وأن وجودهم مبشر بتحقيق العدل والمساواة والتكافل الإجتماعي والذين هم من أساسيات الحكم الإسلامي قبل أي شيء أخر .. فما وجدت غير مزيد من الجور والفوضى والهمجية وعقول مظلمة صبها التعصب في قوالب لا يمكنها الخروج منها ولو أرادت .. وقلوب ممتلئة بحق وغل وكراهية على مخلوقات الله لا يمكن أن تجتمع في قلوب ذاقت الإيمان وعرفت الله. 

لا شئ تغير .. فالدرس الوحيد المستفاد من التاريخ .. أنه لا أحد يستفيد من دروس التاريخ!


الأربعاء، 28 نوفمبر 2012

فن الإحتيال

يحفل التراث الأدبي وحتى السينمائي بحكايات عن شخصية المحتال ..  فهو مادة دسمة للعمل الدرامي لما يتمتع به من امكانيات ومواهب ليس اقلها الذكاء وحسن المظهر وبلاغة الخطاب وهي الصفات التي تجتذب إليه ضحاياه في الأساس وتفتح له المجال واسعاً للتعامل مع انماط البشر المختلفة ليسهل عليه تحديد هدفه واختيار الشرائح المناسبة من المجتمع والتي يمكنه التعامل معها ودفعها لتنفيذ رغباته وتحقيق الاستفادة المرجوة. 
وبالرغم من تعدد أساليب الإحتيال والخداع إلا أن هناك صفات أساسية تتوفر في جميع المحتالين بلا استثناء .. كما أن هناك مواصفات أخرى للشخصية التي يسهل وقوعها في حبائل المحتال. 
وأهم صفة تجمع المحتالين جميعا بلا استثناء هي "الكذب" فلا يوجد نصاب لا يعتمد على الكذب والتمويه وخلط الأمور والتدليس على الضحية. 
كما أن المحتالين جميعا يجتمعون في صفات أخرى مثل عدم احترام القانون أو الوفاء بالعهود والوعود ..
ويغيب لدى المحتال أي معنى للضمير أو لوم النفس فهو يتمتع بكل الأسلحة الدفاعية مثل التبرير والإنكار والإسقاط والتي تجعل كل أفعاله من وجهة نظره مبررة وجائزة مهما كانت فداحتها ومهما كان خروجها عن معايير الأخلاق والقيم الإنسانية والدينية ومهما كانت مدمرة لضحاياه.
كما أن النصاب نرجسي بطبعه .. معجب بذاته .. يعتبر أن ماله من مميزات يراها هو تعطيه الحق في الإستيلاء على حقوق الأخرين.. ولا يعدم الأسباب لذلك فهو الأذكى أو الأعرق أو الأقرب إلى السماء ... ألخ
يعرف النصاب جيداً نقاط ضعف الضحية ويعرف كيف يلعب على أوتار مشاعرها وكيف يمسك بمقودها .. وهو يجد ضالته في مجتمع يتفشى فيه الفقر والجهل .. ويعمه الفساد ويغيب فيه القانون .. فتختل فيه كل القيم وتضيع الحقوق. 
وكلما علا قدر المحتال وازداد اتباعه وصنع حوله شبكة من المنتفعين وأصحاب المصالح ..  كلما قويت شوكته وأصبح التضليل والكذب منهج متبع للتغطية على كل مساوءه وجرائمه في حق ضحاياه .. فما بالك لو كان بين يديه إعلام يبشر به ويجمل من صورته .. ما بالك لو كان الخداع يتم بإستخدام أشهر وأهم نقاط الضعف البشري والتي استغلها الطغاة لعصور وعصور منذ فجر التاريخ .. ألا وهي العلاقة بالسماء .. وبالرغم من انتفاء الوساطات بين العبد وربه في الإسلام .. وبالرغم من عدم إعطائه حصانة لأحد من الناس بخلاف الأنبياء والمرسلين من الخطأ .. إلا أن التعصب والتغييب والقهر الذي عانى منه البعض لعقود يجعلهم يرون في نموذج الشخص المتدين ظاهرياً الخلاص ويتبعونه بدون إعمال للعقل بل ويشاركونه جرائم التبرير وإضفاء القداسة على كل أقواله وأفعاله .. بل يكون من المذهل أن تتغير دفتهم من أقصى اليسار لأقصى اليمين بمجرد إشارة منه فيدافعون عن الأمر ونقيضه في ذات اللحظة!!  .. بل يصبح إعمال العقل عندها من باب الكفر بشريعة السماء .. ومن المذهل أن من يحتال باسم الدين يجد أتباع مخلصين على استعداد للإتيان بابشع الأفعال وأكثرها خروجا عن الشرائع ولا يجدي معه حديثاً أو بينة .. فهو محقون بعدوانية وكراهية وغضب شديد تجاه كل من ينتقد أفعال السيد المختار مبعوث السماء .. 
كارثة أن يصل هذا النوع من المحتالين إلى كرسي الحكم فهو يزكي نيران الكراهية ويصنع في المجتمع انقسامات دموية .. وخاصة في دولة مفككة غاب فيها العدل والقانون.