الأربعاء، 26 سبتمبر 2012

في نعي الثورة

ما أكثر المشاهد والتناقضات على الساحة المصرية والتي تدعو للعجب وتُثير عواصف من التساؤلات وأحياناً الضحكات المفرطة في السخرية أو المرارة .. بداية بالطريقة الحلزونية اللولبية التي تتعامل بها الحكومة مع كل القضايا العامة والمشكلات الشعبية القديمة والحديثة والأنيّة .. وكمثال تعاملهم مع رد فعل الشباب الثوري على إخفاء رسومات الجرافيتي التي توثق للثورة وتحفظ وجوه شهدائها وتنادي بالعدالة والقصاص واتخاذ الإجراءات اللازمة التي تحفظ للشعب كرامته وحقوقه .. حيث حولوا المسألة لمجرد قضية فنية تعبيرية لشباب متفرغ يريد أن يخرج مخزونه الداخلي على الجدران دون الالتفات لمحتوى هذه الرسوم أو للمطالب الثورية التي ترمي إليها .. ومرورا بأمطار التكفير والتجهيل والتي تتساقط بكرم ووفرة وغزارة على أشخاص بعينهم وجهات محددة بحسب الطلب وبما تقتضيه المصلحة فبدأنا ولأول مرة نسمع عن "الحزب الكافر" و"الجريدة الكافرة" و "الدولة الكافرة" .. وتحريم الإنضمام لحزب بعينه والتصويت لشخص بعينه والذهاب لدولة بعينها!! .. بالرغم من النصوص الصريحة التي يحتويها القرآن الكريم والأحاديث النبوية والتي تأمر بعدم تحريم - أو تحليل - أمر أو شئ لم يرد نص صريح في تحريمه أو تحليله ابتغاء مصلحة شخصية .. والتحذير من تكفير الأخر ما لم يكن هناك أدلة قوية وظاهرة ولا تقبل الجدل على ذلك والا فالتكفير سيعود على من رمى به في البداية .. وليس أدل على أن ما يحرك هؤلاء هو المصلحة الخاصة والمصلحة الخاصة فقط من تكفيرهم لحزب يضم كل القوى الثورية بلا استثناء لم يصدر عنه ما يشير من قريب أو من بعيد لكونه ضد الأديان أو المعتقدات الدينية أياً كانت .. بينما لا يحظى بهذا "الشرف" أحزاب عريقة مبادئها تبتعد كثيراً عن الاتجاه الديني الذي يدعوا إليه المُكفّرون .. وليس أعجب من إتيانهم لما كانوا ينهون عنه في عهد مبارك بل وإيجاد كافة المبررات التي تدعم مثل هذه القرارات والأفعال وتحلل ما هو محرم بنصوص شرعية واضحة تحت بند مطاط جدا يدعونه "الضرورات تبيح المحظورات" .. لا أعرف من أين أتوا به فالضرورة التي يبيحها الدين هي ما يفصل بين الموت والحياة وليس شئ أخر .. فأحلوا لأنفسهم جميع ما حرموه سابقاً .. بداية من الانتخابات الديمقراطية .. لمشاركة المرأة في العمل السياسي .. للقروض الربوية .. وليس نهاية باتباع ما تقتضيه الدبلوماسية من تغيير في نوعية ملابسهم وقبولهم التسليم يدوياً على النساء الأجنبيات ومجالستهن وكلها أمور كانوا يجرمونها بشدة قبل الإنخراط في العمل السياسي .. وبعيداً عن كون ما يعتقدونه أو ما يفعلونه صواباً أو خطأ .. كيف نثق في أشخاص يغيرون مبادئهم ومعتقداتهم بهذه السهولة وهذا اليسر .. كيف تعتنق مثل هذا الفكر المطاطي الذي لا يخدم سوى مصلحتك من موقعك ووجهة نظرك وتدعي أنك وحدك الناطق باسم الشريعة .. كل ما يصدر منهم عنصري وطائفي ومتعصب يعزز الانشقاق ويثير الكراهية والنفور .. تمنيت حقاً أن نجد في اقوالكم أو أفعالكم تطبيق حقيقي لدين أو شرع فتسارعون للقصاص من القتلة ومحاسبة الفاسدين وناهبي المال العام بدلا من تكريمهم والإبقاء عليهم في مناصبهم .. ونفس هذا الخطاب المتعالي المنفر يثيره أتباعهم وموئيديهم على صفحات الانترنت وفي الفضائيات ولا يتورعون حتى عن القذف والسب والخوض في الأعراض وهي من الكبائر التي تستوجب اقامة الحد. الجميع أصبحوا من وجهة نظرهم أعداء وكفرة وأعداء للثورة .. الثورة التي احتالوا هم عليها وفرغوها من كل مطالبها واحلامها بالحرية والعدالة وأغرقوها في مستنقع من الخلافات العقيمة تاركين كل القضايا الهامة بلا علاج .. فمازال الفساد يسيطر على كل مفاصل الدولة .. مازال الفقر والقهر والمرض يقتل الأبرياء ويستنزف حياتهم .. غلاء .. بطالة .. انفلات أمني .. مازال الثوار في السجون محرم حتى على اللجان الطبية والحقوقية زيارتهم .. مازال الحد الأدنى والأقصى للأجور حلم بعيد المنال بالرغم من تأكيد الجهاز المركزي للمحاسبات على أن تطبيق الحد الأدنى بواقع 1200 جنيه والأقصى بستة وعشرين ضعف سيوفر للدولة 29.5 مليار جنيه سنوياً .. وأن 5800 موظف يتقاضون 50% من قيمة رواتب العاملين بالحكومة والقطاع العام والبالغ عددهم قرابة الخمسة ملايين!! 
مازال الشعب يقضي يومه في صراع مميت خلف الخبز والغاز ويحلم بكوب ماء نظيف .. ومازال الخطاب السلطوي كما كان دائماً يتحدث من كوكب أخر عن شعب مرفّه يتمتع بحرّية وكرامة ليس لهما وجود على أرض الواقع!

الثلاثاء، 18 سبتمبر 2012

صرخات على الجدران

هي صرخات صامتة .. عرفتها كل الشعوب المضطهدة المقيدة .. الرازحة دائما وأبداً تحت يد القهر والقمع والطغيان .. رسومات على الجدران .. تجعل الحجر يصرخ ويأن .. بعد أن أصاب الصمم الأذان وقست القلوب وغابت العقول .. هي صفحات سجلت ملاحم كفاح شعوب وتاريخ حافل بالشهداء والضحايا .. رسوم عبرت الأسوار والحواجز "رسوم الجرافيتي".. حفظها الشعب وجعلها سجله الحافل عندما آستطاع بعزيمته أن يصنع التغيير الذي سعى إليه .. وعندما وجدت صرخاته صدى .. ويشهد عليها سور برلين الذي مازال يحفظ لشعب ألمانيا ملحمة كفاحه لتوحيد بلاده وإسقاط حاجز صنعته الحرب الباردة وأصحاب المصالح .. رسومات لم يخلو منها الجدار العازل المقام في الأراضي المحتلة .. وكانت لسان حال الثورة والثوار في مصر وتونس وغيرها من البلاد التي أرادت الخروج من قبضة القمع والقهر وأن يحيا شعبها كبشر ويعامل كبشر .. ولكن عندما يتم إحتواء الثورة وتلجيمها وتحجيمها وتسيير الأمور كلها في عكس اتجاهها .. يكون تكميم الأفواه أحد الوسائل الهامة للقضاء نهائياً عليها .. ويصبح محو هذه الرسوم الجدارية محو لأخر أثر يدل على أنه كانت هنا في يوم ما ثورة .. كلما تأملت في الحال في مصر وما ألت إليه الأمور أصاب بحالة من الاندهاش الشديد .. كيف سارت الأمور في هذا الطريق وانحدرت الى هذا الدرك .. كيف انطفأت الأمال العريضة في التغيير والارتقاء وسقطنا مرة أخرى في نفس الوحل بل زاد عليه ما هو أكثر من الماضي تراجعا وانهيارا .. لا شئ تغير فعليا .. نفس السياسات العقيمة .. نفس الأساليب القديمة .. نفس الخطاب الحكومي الفارغ البائس .. نفس مناهج التعامل مع المشكلات والإحتجاجات .. لا أعرف ما هو المطلوب فعليا واللازم عمله لنعامل كبشر ومواطنين في بلادنا .. متى يكون لدينا قانون قائم يحترمه الجميع ويطبق على الجميع بلا استثناء .. حتى الأن لم تتحقق فعلياً أيا من مطالب الثورة المهيضة وقد لا تتحقق أبداً إذا بقى الحال على ما هو عليه .. بل أن الأمور ازدادت سوءاً وأصبحت أفعال وقرارات من بيدهم الأمور ذات قداسة من يعترض عليها فكأنه يخالف أمر إلهي .. فمنافقي كل العصور لم يدخروا جهدا في إضفاء القداسة على أفعال الرئيس والحكومة ولم يتوانوا عن استخدام نفس أغنيات جوقة الرئيس السابق .. وسلاح المبررون يعمل بكامل طاقته لتبرير ما لا يمكن تبريره وبأساليب لا تقل غباء عن أساليب مبررين الحزب الوطني البائد .. وكما وجدوا الف مبرر لمذبحة كتب النبي دنيال .. سيجدوا ألف غيرهم لمحو جرافيتي محمد محمود وتغيير معالم ميدان التحرير تحت شعار التحديث والتجميل بالرغم من أن المشاركين في هذه الأعمال هم فنانين في غاية الروعة وما قدموه إبداع حقيقي يستحق الحفاظ عليه واحترامه ناهيك عن المعنى المتجسد فيه .. وكأن البلاد خلت من كل مظاهر القبح والتخلف .. فلا أطنان من القمامة ولا ملايين من أطفال الشوارع والمشردين ولا عشوائيات وقرى خارج حدود الزمان والمكان وغير معترف بها وبأهلها كبشر لهم الحق في العيش بكرامة .. فلم يبقى ليشوه الوجه الحضاري العظيم الذي يطل علينا غير أكشاك الكتب ورسومات الجرافيتي التي تعبر عن الثورة!!! ..  كل شئ بقى على حاله ولم يتغير غير عدد المغيبين والمبررين والمسحورين بالشعارات واللحى. 
أما أنتم يا شهداء الحرية والمبادئ فإن غابت وجوهكم من على الجدران كما غابت من قبل عن الحياة .. فهي لن تغيب عن عيوننا وقلوبنا .. وان كانت الوعود باعادة المحاكمات وفرض القانون قد ذهبت ادراج الريح فمازالت مطالب الثورة والعدالة حية في قلوب ثوار لم ولن ينسوا.. والمحاولات المستميتة لغلق كل قنوات التعبير لم تفلح سابقا ولن تفلح أبداً..